فصل: تفسير الآيات (36- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات [36- 40]:

قوله تعالى: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهمْ شعَيْبا فَقَالَ يَا قَوْم اعْبدوا اللهَ وَارْجوا الْيَوْمَ الْآخرَ وَلَا تَعْثَوْا في الْأَرْض مفْسدينَ (36) فَكَذبوه فَأَخَذَتْهم الرجْفَة فَأَصْبَحوا في دَارهمْ جَاثمينَ (37) وَعَادا وَثَمودَ وَقَدْ تَبَينَ لَكمْ منْ مَسَاكنهمْ وَزَينَ لَهم الشيْطَان أَعْمَالَهمْ فَصَدهمْ عَن السبيل وَكَانوا مسْتَبْصرينَ (38) وَقَارونَ وَفرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهمْ موسَى بالْبَينَات فَاسْتَكْبَروا في الْأَرْض وَمَا كَانوا سَابقينَ (39) فَكلا أَخَذْنَا بذَنْبه فَمنْهمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبا وَمنْهمْ مَنْ أَخَذَتْه الصيْحَة وَمنْهمْ مَنْ خَسَفْنَا به الْأَرْضَ وَمنْهمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهمْ وَلَكنْ كَانوا أَنْفسَهمْ يَظْلمونَ (40)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان السياق لإثبات يوم الدين وإهلاك المفسدين، ولمن طال ابتلاؤه من الصالحين ولم يجد له ناصرا من قومه، إما لغربته عنهم، وإما لقلة عشيرته لتسميتهم وعدم أتباعه، وكان شعيب عليه السلام ممن استضعفه قومه واستقلوا عشيرته لتسميتهم لهم رهطا، والرهط ما دون العشرة أو من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، فكان عليه السلام كذلك في هذا العداد، عقب قصة لوط بقصته عليه الصلاة والسلام فقال: {وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {مدين أخاهم} أي من النسب والبلد {شعيبا}.
ولما كان مقصود السورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير فترة، عبر بالفاء فقال: {فقال} أي فتسبب عن إرساله وتعقبه أن قال: {يا قوم اعبدوا الله} أي الملك الأعلى وحده، ولا تشركوا به شيئا، فإن العبادة التي فيها شرك عدم، لأن الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصا.
ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال: {وارجوا اليوم الآخر} أي حسن الجزاء فيه لتفعلوا ما يليق بذلك {ولا تعثوا في الأرض} حال كونكم {مفسدين} أي متعمدين الفساد.
ولما تسبب عن هذا النصح وتعقبه تكذيبهم فتسبب عنه وتعقبه إهلاكهم، تحقيقا لأن أهل السيئات لا يسبقون قال: {فكذبوه فأخذتهم} أي لذلك أخذ قهر وغلبة {الرجفة} أي الصيحة التي زلزلت بهم فأهلكتهم {فأصبحوا في دارهم} أي محالهم التي كانت دائرة بهم وكانوا يدورون فيها {جاثمين} أي واقعين على صدورهم، لازمين مكانا واحدا، لا يقدرون على حركة أصلا، لأنه لا أرواح لهم.
ولما كان من المقاصد العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضا في الخير والشر على نسق، والجري بهم في إهلاك المكذبين وإنجاء المصدقين طبقا عن طبق، وكان إهلاك عاد وثمود- لما اشتهروا به من قوة الأبدان، ومتانة الأركان- في غاية الغرابة، وكان معنى ختام قصة مدين: فأهلكناهم، عطف عليه على ذلك المعنى قوله: {وعادا} أي وأهلكنا أيضا عادا {وثمودا} مع ما كانوا فيه من العتو، والتكبر والعلو {وقد تبين لكم} أي ظهر بنفسه غاية الظهور أيها العرب أمرهم {من مساكنهم} أي ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدة الأجسام، وسعة الأحلام، وعلو الاهتمام، وثقوب الأذهان، وعظيم الشأن، عند مروركم بتلك المساكن، ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام، فصرفوا أفكارهم في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا، فأملوا بعيدا، وبنوا شديدا، ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئا من أمر الله {وزين لهم} في غاية التزيين {الشيطان} أي بعيد من الرحمة، المحترق باللعنة، بقوة احتياله، ومحبوب ضلاله ومحاله {أعمالهم} أي الفاسدة، فأقبلوا بكليتهم عليها مع العدو المبين، وأعرضوا عن الهداة الناصحين.
ولما تسبب عن هذا التزيين منعهم لعماهم عن الصراط المستقيم قال: {فصدهم عن السبيل} أي منعهم عن سلوك الطريق الذي لا طريق إلا هو، لكونه يوصل إلى النجاة، وغيره يوصل إلى الهلاك، فهو عدم بل العدم خير منه.
ولما كان ذلك ربما ظن أنه لفرط غباوتهم قال: {وكانوا} أي فعل بهم الشيطان ما فعل من الإغواء والحال أنهم كانوا كونا هم فيه في غاية التمكن {مستبصرين} أي معدودين بين الناس من البصراء العقلاء جدا لما فاقوهم به مما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا، ولم يسبقونا، بل أوقعناهم بعملهم السيئات فيما أردنا من أنواع الهلكات، فاحذروا مثل مصارعهم فإنكم لا تشابهونهم في القوة، ولا تقاربونهم في العقول.
ولما كان لفرعون ومن ذكر معه من العتو بمكان لا يخفى، لما أتوا من القوة بالأموال والرجال قال: {وقارون} أي أهلكناه وقومه لأن وقوعه في أسباب الهلاك أعجب، لكونه من بني إسرائيل، ولأنه ابتلى بالمال والعلم، فكان ذلك سبب إعجابه، فتكبر على موسى وهاورن عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه {وفرعون وهامان} وزيره الذي أوقد له على الطين، فلا هو نجا ولا كان رأسا في الكفر، بل باع سعادته بكونه ذنبا لغيره.
ولما كان هلاكهم مع رؤية الآيات أعجب، فكان جديرا بالإنكار، إشارة إلى أن رؤية الآيات جديرة بأن يلزم عنها الإيمان قال: {ولقد جاءهم موسى بالبينات} أي التي لم تدع لبسا فتسببوا عما يقتضيه من الاستبصار الاستكبار {فاستكبروا} أي طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم أفعال من يطلب ذلك {في الأرض} بعد مجيء موسى عليه الصلاة والسلام إليهم أكثر مما كانوا قبله.
ولما كان من يتكبر- وهو عالم بأنه مأخوذ- أشد لوما ممن يجهل ذلك قال: {وما كانوا} أي الذين ذكروا هذا كلهم، كونا ما {سابقين} أي فائتين ما نريدهم، بأن يخرجوا من قبضتنا، بل هم في القبضة كما ذكرنا أول السورة وهم عالمون بذلك {فكلا} أي فتسبب عن تكذيبهم وعصيانهم أن كلا منهم {أخذنا} أي بما لنا من العظمة {بذنبه} أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا {فمنهم من أرسلنا عليه} إرسال عذاب يا له من عذاب! {حاصبا} أي ريحا ترمى لقوة عصفها وشدة قصفها بالحجارة كعاد وقوم لوط {ومنهم من أخذته} أخذ هلاك وغضب وعذاب، وعدل عن أسلوب العظمة لئلا يوهم الإسناد في هذه إليه صوتا ليوقع في مصيبة التشبيه {الصيحة} التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود {ومنهم من} وأعاد أسلوب العظمة الماضي لسلامة من الإيهام المذكور في الصيحة وللتنبيه على أنه لا يقدر عليه غير الله سبحانه ففيه من الدلالة على عظمته ما يقصر عنه الوصف فقال: {خسفنا به الأرض} بأن غيبناه فيها كقارون وجماعته {ومنهم من أغرقنا} بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وجنوده، وعذاب قوم لوط صالح للعد في الإغراق والعد في الخسف، فتارة نهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط، أو من الأرض كعاد، وأخرى بريح تقرع بالصرخة الأسماع فتزلزل القلوب والبقاع، ومرة نبيد بالغمس في الكثيف وكرة بالغمر في اللطيف- فلله در الناظرين في هذه الأوامر النافذة، والمتفكرين في هذه الأقضية الماضية، ليعلموا حقيقة قوله: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء}- الآية.
ولما كان ذلك ربما جر لأهل التعنت شيئا مما اعتادوه في عنادهم قال: {وما كان الله} أي الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا هو وله {ليظلمهم} أي مريدا ليعاملهم معاملة الظالم الذي يعاقب من لا جرم له، أو من أجرم ولم يتقدم إليه بالنهي عن إجرامه ليكف فيسلم، أو يتمادى فيهلك لأنه لا نفع يصل إليه سبحانه من إهلاكهم، ولا ضرر يلحقه عز شأنه من إبقائهم {ولكن كانوا} أي هم لا غيرهم {أنفسهم} لا غيرها {يظلمون} بارتكابهم ما أخبرناهم غير مرة أنه يغضبنا وأنا نأخذ من يفعله، فلم يقبلوا النصح مع عجزهم، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم. اهـ.

.قال الفخر:

{وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهمْ شعَيْبا فَقَالَ يَا قَوْم اعْبدوا اللهَ وَارْجوا الْيَوْمَ الْآخرَ}.
لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم} واختلف المفسرون في مدين، فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه، واشتهر في القوم، والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال: {وَلَما وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} [القصص: 23] ولو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة، وقوله: {أخاهم} قيل لأن شعيبا كان منهم نسبا.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال الله تعالى في نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نوحا إلى قَوْمه} [العنبكوت: 14] قدم نوحا في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط، وهاهنا ذكر القوم أولا وأضاف إليهم أخاهم شعيبا، فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولا إلى غير معين، وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شعَيْبا} وقال: {وإلى عَادٍ أَخَاهمْ هودا} [الأعراف: 65].
المسألة الثانية:
لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن شعيب ذلك؟ قلنا قد ذكرنا أن لوطا كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه، وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها، وإن كان هو أيضا يأمر بالتوحيد، إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد، وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلا أيضا في التوحيد فدأبه وقال: {اعبدوا الله}.
المسألة الثالثة:
الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد، والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد الله ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله: {اعبدوا الله}؟ فنقول: هذا الأمر يفيد التوحيد، وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيدا وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد، فإذا قال له أخدم عمرا يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه، وكذا إذا كان لواحد دينار واحد، وهو يريد أن يعطيه زيدا، فإذا قيل له أعطه عمرا يفهم منه لا تعطه زيدا، فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير الله والله مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب: {اعبدوا الله} ففهموا منه ترك عبادة غيره أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير الله فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة الله ففهم منه التوحيد، ثم قال: {وارجوا اليوم الأخر} قال الزمخشري: معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلا، ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلا، وقوله: {وارجوا اليوم الأخر} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
هذا يدل على صحة مذهبنا، فإن عندنا من عبد الله طول عمره يثيبه الله تفضلا ولا يجب عليه ذلك لأن العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر، ومن شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده، وإن زاده يكون إحسانا منه إليه وإنعاما عليه، فنقول قوله: {وارجوا اليوم} بعد قوله: {اعبدوا الله} يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى والواجب من العادل يقطع به.
المسألة الثانية:
قال: {وارجوا اليوم الأخر} ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل وغير مرجو عند كثير من الناس، لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده، فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال: {اعبدوا} ولم يذكره بطريق النفي وما قال ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين، وفيه وجه آخر وهو أن الله حكى في حكاية إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فتكفرون بها، وقال هاهنا لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر، فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا، وارجوا اليوم الآخر واعملوا له، ثم قال: {وَلاَ تَعْثَوْا في الأرض مفْسدينَ} يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائما أي قياما ويكون قوله: {وَلاَ تَعْثَوْا في الأرض مفْسدينَ} كقول القائل إجلس قعودا لأن العيث والفساد بمعنى، وجمع الأوامر والنواهي في قوله: {اعبدوا الله} وقوله: {وَلاَ تَعْثَوْا} ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين، فحكى الله عنهم ذلك بقوله: {فَكَذبوه فَأَخَذَتْهم الرجفة فَأَصْبَحوا في دَارهمْ جَاثمينَ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
ما حكى عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب، فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له كذبت، فنقول كان شعيب يقول الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به.
المسألة الثانية:
قال هاهنا وفي الأعراف: {فَأَخَذَتْهم الرجفة} وقال في هود: {وأخذت الذين ظلموا الصيحة}.
والحكاية واحدة، نقول لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سببا للرجفة، إما لرجفة الأرض إذ قيل إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، وإما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب، إذ يصح أن يقال روى فقوي، وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة.
المسألة الثالثة:
حيث قال: {فَأَخَذَتْهم الصيحة} قال: {فى ديَارهمْ} وحيث قال: {فَأَخَذَتْهم الرجفة} قال: {في دَارهمْ} فنقول المراد من الدار هو الديار، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس، وإنما اختلف اللفظ للطيفة، وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع، حتى تعلم هيبتها والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها، وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو، والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة، فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم.
ثم قال تعالى: {وَعَادا وَثَمودَ} أي وأهلكنا عادا وثمود لأن قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهم الرجفة} دل على الإهلاك {وَقَد تبَينَ لَكم من مساكنهم} الأمر وما تعتبرون منه، ثم بين سبب ما جرى عليهم فقال: {وَزَينَ لَهم الشيطان أعمالهم فَصَدهمْ عَن السبيل} فقوله: {وَزَينَ لَهم الشيطان أعمالهم} يعني عبادتهم لغير الله {فَصَدهمْ عَن السبيل} يعني عبادة الله {وَكَانوا مسْتَبْصرينَ} يعني بواسطة الرسل يعني فلم يكن لهم في ذلك عذر فإن الرسل أوضحوا السبل.
ثم قال تعالى: {وقارون وَفرْعَوْنَ وهامان} عطفا عليهم أي: وأهلكنا قارون وفرعون وهامان.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهمْ موسى بالبينات} كما قال في عاد وثمود: {وَكَانوا مسْتَبْصرينَ} أي بالرسل، ثم قال تعالى: {فاستكبروا} أي عن عبادة الله وقوله: {فى الأرض} إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم، وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن من في السماء لا يستكبر على الله وعن عبادته، فكيف {يستكبر} من في الأرض.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانوا سابقين} أي ما كانوا يفوتون الله لأنا بينا في قوله تعالى: {وَمَا أَنتمْ بمعْجزينَ في الأرض} [العنبكوت: 22] أن المراد أن أقطار الأرض في قبضة قدرة الله.
{فَكلا أَخَذْنَا بذَنْبه فَمنْهمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبا}.
ذكر الله أربعة أشياء العذاب بالحاصب، وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر، وفيه إشارة إلى النار والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج، فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس، والعذاب بالخسف وهو الغمر في التراب، والعذاب بالإغراق وهو بالماء.
فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه، فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه، وما به بقاؤه سببا لفنائه، ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهمْ ولكن كَانوا أَنفسَهمْ يَظْلمونَ} يعني لم يظلمهم بالهلاك، وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن الله ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرمْنَا بَنى ءادَمَ} [الإسراء: 70] لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته. اهـ.